المادة    
الآن نذكر بعض التفاصيل التي يمكن أن تعيننا وتوضح لنا كيف يمكن للعقل البشري بالبحث المجرد أن يصدق الوحي, وأن يكذب بالأساطير وبالخرافات.
واختصاراً رأيت أن أنقل من بعض المصادر التاريخية المعروفة، على سبيل المثال: عندنا الخطط المقريزية نقل عن المسعودي وعن غيره ممن سبق، نذكر مجموعة -بعضها آثار ثابتة, وبعضها قد تحتمل وبعضها لا تحتمل- كنموذج للحقيقة في الإسلام أنها يُبحث عنها, ولا يجزم بها ولا يقطع إلا بما جاء به الوحي المعصوم, أو كان الدليل العقلي قاطعاً فيه؛ لكنها على أية حال تذكر، ولا إشكال في ذكرها, ولا تؤثر على من ذكروها لا المسعودي ولا الأقريشي ولا المقريزي ولا غيرهم ممن ذكر شيئاً من هذا.
  1. صور مما ذكره المقريزي

    مثلاً: عندما يتحدث المقريزي في الخطط أنه عثر في بعض المقابر وأخرج منها جمجمة عظيمة، ووضعت على عجلة يجرها ثوران مثلاً كقضية من القضايا.
    وعندما يتحدثون أنه كان في الإسكندرية ضرس إنسان عند قصاب يزن به اللحم زنته ثمانية أرطال!
    وعندما يذكر -وهذه إشارات فيه نوع من الأهمية ثبتت- أن أعمدة الإسكندرية بناها من قوم عاد رجل يقال له: البتون بن مرة العادي , وأنه حملها من جبل جهة أسوان حتى أوصلها إلى هناك.. هذا كلام؛ لكن هل نرى له احتمالية؟!
    سنرى فيما بعد أن عمالقة من قوم عاد وثمود كانوا هم الذين حملوا الحجار الضخمة تحت إبطهم, وقد يكون بالعربات، المهم حملوها من المناطق التي تبعد مئات الكيلومترات من مقاطع أو محاجر الأهرام؛ حتى بنوا بها الأهرام, وبنو منها منارة بـالإسكندرية, وبنوا منها آثار تدمر , أو بنوا منها آثاراً بـ اليمن .
    الحقائق هذه كلها تؤكد في النهاية أن أصل الحضارة هو جزيرة العرب، وأن الجزء الجنوبي من هذه الجزيرة الطيبة المباركة هو أصل الحضارة العالمية، وأول ناطحات سحاب بنيت -ولا تزال موجودة ومبنية- في اليمن ، وما يوجد في الشام و العراق فهو لأن هذه الشعوب -ومنها الكنعانيون والفينيقيون وغيرهم- أصلاً هاجروا من اليمن ، والتشابه في الأسماء الموجودة وبوضوح في اللغات ما بين اللهجة اليمنية وأماكن في صنعاء وما حولها، وبين ما يوجد في الشام و العراق وغيرها هو أيضاً مما يدل على أن أصل الحضارة المعروفة والمشاهدة: هو في هذه الجزيرة, وفي جنوبها بالذات.
    المقصودك أنه ذكر أسماء وأعمدة مأرب و بينون ومآثر اليمن .. إلى آخره، كل هذا مما يدل على أن هناك قدراً من الحقيقة.
    ثم يقول المقريزي رحمه الله: وكأني بمن قل علمه ينكر علي إيراد هذا الفصل -بعدما ذكر فصلاً طويلاً في هذا- ويراه من قبيل المحال, ويكذب به, لا يوحشنّك ذلك! اسمع قول الله تبارك وتعالى عن عاد قوم هود: (( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ))[الأعراف:69], أي: طولاً وعظم جسم, وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: [كان أطولهم مائة ذراع, وأقصرهم ستين ذراعاً].
    (( وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً )), قيل: كانت على خلق آبائهم, وقيل: على خلق قوم نوح، ويحتمل أنه زادهم في الخلق عن الأمم المحيطة بهم، ثم ذكر أيضاً وهب بن منبه و ابن لهيعة وغيرهم أن الوحوش كانت تضع أولادها في قحف العين للعماليق!
    على كل حال إذا كانوا بهذا الطول؛ فلا يستبعد أن الوحوش فيما بعد إذا وجدت مقبرة تضع أولادها في مثل هذا؛ ولا غرابة, وقد كان الناس -كثير منهم- لم يصدقوا أن أبا عبيدة رضي الله تعالى عنه جمع بعض الصحابة في قحف عين الحوت، أو أن البعير سار من تحت ضلعه، والآن اكتشف الناس وعرفوا أن الحوت الأزرق هو أضخم من الفيل بعشرة أضعاف! وأن هذا الكلام عادي جداً, كما وقع في أيام الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وهكذا تتضح الحقائق ولو بعد حين.
  2. صور مما ذكرها الأقريشي

    هناك شيء من الطرافة فيما نقله عن الأقريشي -في باشقرد أو في مناطق من أواسط آسيا - أن هناك نوعاً من العمالقة؛ ولكن بشكل أقل, يقول: فك الرجل منهم سبعة عشر ذراعاً, بعضهم يقول: أربعة أذرع.. ثلاثة أشبار, ليست مشكلة, وإنما بشكل معقول قريب جداً مما ذكره ويل ديورانت في قصة الحضارة، وقريب من القبور التي نحن رأيناها بأنفسنا هنا في جزيرة العرب, وفي منطقة الجنوب حيث وقفنا عليها، فهي فعلاً قبور كبيرة, ليست مثل قبور هذه الأمة، ولكنها ليست أيضاً بالضخامة الهائلة التي تحدث عنها الغربيون, يعني: خمسين متراً أو أربعين متراً, وإنما هي تقريباً أربعة أمتار، تقريباً يمكن يكون طول الرجل منهم ما بين مترين ونصف إلى ثلاثة أمتار, والله تعالى أعلم؛ لكنها قبور متميزة وموجودة, ووقفت عليها بنفسي أيضاً.
    على كل حال؛ هناك من يتحدث عن صنف من هذا النوع كان موجوداً في أيام الأقريشي ، و المقريزي يضيف ويقول: أنا أدركت شيئاً من ذلك، وذكر قصة وقعت أيام السلطان الظاهر برقوق ، وأن ناساً اختلفوا في ترِكة, وأنه وجد رجل ضخم الجثة في مصر , الآن أصبح الحديث عادي جداً في هذه الأمور, وأن ما يوجد في مصر وغيرها أكثر بكثير مما كان يتخيل أو كان يُظن، بعد أن تفرغ الباحثون والمختصون, وبدءوا ينقبون في كل مكان, لعلنا نذكر طرفاً منها إن شاء الله تبارك وتعالى.
  3. صورة ذكرها عبد الله بن المبارك

    لكن نحب أن نوضح من مصدر ثقة, وهو أن الإمام المجاهد العلامة العابد: عبد الله بن المبارك رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهو مَن نعلم قيمته, وما ورد في فضله، أُوتي في أيامه بأسنان يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء -الجزء الثامن المحقق صفحة أربعمائة وسبعة عشر-: قال أبو إسحاق الطالقاني كنّا عند ابن المبارك فانهد الحصن -حصن كان لديهم- فأوتي بسِنَّين -عظام أسنان- فوجد وزن أحدهما مَنوان, يقول المحقق: أن المنوان.. المنا: 8,10 , يعني: المنوان يزنان حوالي كيلوين إلا ربع أو شيئاً من هذا.
    يقول: فأنشد عبد الله بن المبارك رضي الله تعالى عنه في هذه السن شعراً يقول:
    أتيت بسنين قد رمتا من الحصن لما أثاروا الدفينا
    على وزن منوين إحداهما تقل به الكف شيئاً رزينا
    ثلاثون سناً على قدرها تباركت يا أحسن الخالقينا
    فماذا يقوم لأفواهها             وما كان يملأ تلك البطونا
    يعني: كيف تأكل هذه الثلاثين سناً والواحد منها ملء الكف؟!
    إذا ما تذكرت أجسامهم تصاغرت النفس حتى تهونا
    وكل على ذاك ذاق الردى فبادوا جميعاً فهم هامدونا
    رضي الله تعالى عنه.
    هذا مما يؤكد الشيء المهم؛ أنه مثل هذا كان أمراً عادياً ومعروفاً.
  4. نموذج مما تحدث به الباحثون عن قصة الحضارة

    لما نرجع إلى ما تحدث به الباحثون نجد مثلاً أن في قصة الحضارة -نفس المنطقة تقريباً التي كان يسكن فيها الإمام عبد الله بن المبارك- يتحدث ويل ديورانت أن من أقدم الأماكن الحضارية أو ما يقول به الكثير منهم، أن موطن الإنسان القديم العملاق كان في وسط آسيا ، هناك من يقول: تركيا , وهناك من يقول: الحبشة , لا اعتراض لنا على هذا، المهم أن نعتقد ونقول: أنها جزيرة العرب؛ لكن امتدوا في الأرض, وامتدوا في الآفاق.
    فيقول: إن مدينة يكترا مساحتها يمتد قطر دائرتها اثنين وعشرين ميلاً, يعني: أكثر من خمسة وثلاثين كيلو! يعني: مدينة في تلك الأزمان السحيقة -البعض يرجعها إلى تسعة آلاف سنة قبل الميلاد - يعني: أحد عشر ألف سنة من الآن أو نحو ذلك, ويكون قطرها خمسة وثلاثين كيلو متر!
    ثم يذكر عِظَم الآثار التي وجدت -طبعاً حتى لو قدرناها أنها أربعة آلاف متر كما يرى هو وغيره- المهم أن هناك شيئاً بالفعل يشد الانتباه والنظر في تلك المناطق, ولو نقب -وقد بدأ بعد انهيار الشيوعية بالتنقيب أكثر وأكثر- لوجد أعظم وأعظم, مما يدل ويؤكد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى خلق آدم طوله ستين ذراعاً؛ فما زال الخلق ينقص).
    فمعنى ذلك: أن هذه الأمم العظيمة التي عاشت سواء كانوا في أواسط آسيا أو في تركيا أو في اليمن أو في بلاد الشام أو في أي مكان؛ أنهم فعلاً أمة عظيمة هائلة وجدت, وأنها كانت على هذا القدر من العظم والخِلْقة.